افتتاح المتحف المصري ، خط سير إبداع يغوص فى بحر الجمال يعب من فيض التاريخ اللؤلؤ والمرجان مناهل سطور صفاء وباللمعان ، ايناع علي أرض خصيبة فى تربة طيبة لا أرض حطيبة ، فمصر فى التاريخ مثمرة ، في الجغرافيا زاهية مزهرة ، مع التاريخ والجغرافيا والناس بينهما حضارة بمحاسن كل عصر يتيمة الدهر بسموق مجدها قاهرة بعبقها باهرة .
و بافتتاح المتحف المصري كانت شعوب العالم فى لحظة الميلاد المتحفي تترقب عجائب حدث عظيم ، لم تكن العيون الناظرة والرقاب المشرئبة و الحركات مع الكلمات الهامسات والأصوات المرتفعات لم تك تتوقع هذا الزخم المشهدي بهذا الحجم الكبير فافتتاح المتحف المصري قراءة بسعة عيون العالم وفق مشاهدات جمعت بين الإمتاع والمؤانسة وبين الرغبة والرهبة .
لقد كان انبهار القلوب والعيون والأرواح بعمل بدأ منذ ٢٦ عاما جرت فيه عمليات اشتباك ضمائر ونيات ؛ لكي يكون المتحف فى الواقع المحسوس والمعقول ، المتحف المصري تم ، و لقد تغيرت شخوص وتبدلت حكومات وانزاحت أفكار وولدت أخري بغير مكانها بل ببعدها النهائي .
رؤي جددت فى مشروع المتحف ،منها ترحيل أماكن للمتحف بعد تحديد حيثيات توافق ، ففكرة المتحف نشأت منذ القدم ، سنوات كانت في نهاية القرن التاسع عشر بداية فكرة النشأة ، ففي القاهرة العامرة الساحرة الساهرة توقع البعض للمتحف مقاصد اختيارات مثل ٠٠ الأزبكية أو دار الخديو إسماعيل وفكروا فى منطقة بولاق وفى ميدان الإسماعيلية / التحرير.
ولقد حطوا رحال الفكرة فكانت الانتكخانة هى مقر المتحف المصري الحالى بميدان التحرير ، ثم بعد اكتظاظ المكان وضيق وصفه واستحالة توسعته كان الاستقرار لدولة مقر المتحف بالقرب من الأهرامات ، ليظل شبيه الشيء وهو منه منجذب إليه ينعطف عنده يلتف حوله ،احتياج لافت لنظيره أو علاقة تشبيهه ووجه شبه بين منطقة الأهرامات وبين أرض المتحف ، وكذا مرآة لعيون نافذة تطلعات وروشن أو بلكونة فيها يتم احتضان الوقف متفرجا من عل ، فهو متحف يحتضن تاريخا عمره أكثر من سبعة آلاف سنة يقول أحمد شوقي ١٨٦٨ / ١٩٣٢ :
قل لبان بنى فشاد فغالي
لم يجز مصر فى الزمان بناء
ليس فى الممكنات أن تنقل الأجبال
شما وأن تنال السماء
أجفل الجن عن عزائم فرعون
ودانت لبأسها الآباء
شاد ما لم يشد زمانا ولا
ان شاء عصر ولابني بناء
٠٠ فالمتحف المصري يستحضر مجد التاريخ المصري معتدا بذلك ومعتقدا في أن تراكم السنين بعناصر التاريخ هى في إبداع التاريخ بغير سنوات تقاس بالثواني والدقائق والساعات والشهور ؛ بل تعد بحجم العمل بقدرة الناس على صنع الحياة فتزداد ولا تتوقف عند جيل بل أجيال تشاهد عظمة أجيال ، وهكذا حضارة مصر ، وصناعة الحياة تنجح فيها شعوب وتخسر وتخفق فيها أعمال وتسقط .
ذلك الحراك الدوار منذ " أدم " ومصر فى امتحان التاريخ يقظة نجاح صحوة فى ابتلاءات ، ثلاثية نجاح وصلاح وفلاح ، تلك مزية ليست تعرف المبالغة ونحن نذكرها ، بل هي امتيازات جعلت مصر تفرد حضارة ، علو حضارة ، نبت حضارة ، هي أم الحضارات فحضارة مصر لا حضارات غيرها تماثلها ، ومصر هى أوحدية ذلك المجد الحضاري ، و مصر تلك هي أم الحضارات ، أصل الشجرة ، كنانة الكون وهى تسقي من ماء واحد هو ماء الحياة يمخر المجد فى بحر الجذور الثوابت ، فالمتحف المصري بهر العيون الناعسات والعيون اليواقظ ٠
لماذا كان ذلك كذلك ؟ الرد يتبلور و الجواب يتحور و في سطورنا نتحول تجوالا قولا واحدا هو : إن مصر أم الحضارات وهى _ أي مصر _ الجغرافية بقاء. ، مصر في التاريخ كتابة لا تنتهى ، مصر فى عدد السنين أرقام لاتحصي ، مصر في الحضور وجود ، مصر فى الزمن دورة وتدويل ، مصر فى الحياة احياء .
مصر فى الميتافيزيقا أعلى من النظريات والتفسيرات والتأويلات كلها ، مصر فى الكيمياء قواعد صح لا تخطئها نظرية تالية ولا تتخطاها ، فمصر ثبات فى النظريات المؤكدة مثل الشمس والقمر وجودا ، مصر فى الفصول قيمة يحتاجها جسد البشر ، و حضارة مصر تؤثر تمددا وانكماشا فى الحجر ، مصر فى حركة الزمن معرفة تشد عدد السنين والحساب ، مصر فى التقدير تكبير المكبر ، ومصر فى مدد الشوف تكبير المصغر ، مصر فى الكون حتمية صنع كان لزاما ، قابلية تجدد بالأمر الإلهي المقضي والمقدر ، مصر فى الحفظ سطوع شمس علي الدنيا مشرق ، وفى الليل المظلم . ضي القمر المنير .
مصر فى الحفظ محفوظة مصانة ، مصر فى أمر كن فيكون معجزة وجود ، مصر فى القرأن الكريم تموضعت مع عدد آيات كريمات ثلاث وعشرين مرة ، وفى كل آية دقة لفظ ونسق معنى ، مصر توالد دالات فيها عبر وعظات للناس كافة ، وللجن أجمعين ، ومن العبر والعظات معايير دينية ، والدين مقدس والقرآن الكريم قداسة كلمات فمصر في وحى من الملك القدوس ، فالله الملك القدوس العزيز العليم الحكيم الخبير جعل مصر بعدد آيات ، ليس بتخارج لفظ وتداخل لفظ دون سبب واحد أو أوحد ، بل مصر فى الأسباب و المسببات شرعنة إلهية وفق مقدمات بحكمة ، ونتائج بتقدير العزيز العليم ، فمصر تجليات أسباب ومسببات نسق وجود ، و مصر كأنها فى الشعر دواوين إبداع وقصائد تجليات وطموحات تجويد لفظا ومعني ، مصر في النثر سطور بمليارات وتريليونات السطور الفصيحة ، أفصحت عن شرط الكون المقدر.
مصر فى الإحساس أبين ، ومع كون الخلق أجمل تعبير أحلي موسيقى نثر نغم منغم ، كله مغنم بكلام موزون يفوق عروض الشعر ، مصر تلهم قاقية الشعر نطقا حضاريا وتصنع بقوافي القصائد الإبداعية صدق الشعور الإنساني ، و للحضارات مصر أسبق بعبقرية المكان ، وأجمل وقفات و أمتع سكنات ، تسكين يشد رحاله لراحة هي صنع الحضارات ، ووجود مصر حضور ووجود عمل حسابه في تطمين فؤاد الدنيا من أجل عمارة فيها ، مصر تنظيم النبض الكوني .
مصر حراك هو أعلى وثبات فوق العلو دون غلو ، ارتفاعات للإنسان الخليفة فى الأرض ، فحضارة مصر أبعد أثرا فى السبك والسك بالضرب والسكب ، ثراء ما أعظمه وأغناه ؛ تتكون كلمة مصر من ثلاثة حروف من حروف الهجاء العربى _ م ، ص ، ر _ حروف تؤطر بأن مصر هي التكوين الرحمي ، تناص خلق بالشاهد والمشهود ، هى فى بطن الدنيا مخلوقة من ماء دافق من صلب التاريخ التقاء بين ترائب الدنيا فمصر دمج الصلب والترائب معا فى مشيمة مصر برحم الدنيا المكين ، نطفة نطق و خلق علقة ثم مضغة كانت مصر المولد والميلاد مصر مهد الدنيا رزق الله فى الكون ، والكون كله خلق ومن بين الخلق اصطفاء أماكن ، ومصر بإذن الله ، بمشيئة الله اصطفاء جغرافيا و سرد حياة تاريخ .
و مصر تقدير قدر مقدر فى السرد صنائع إتقان الله صنعة الله [ ومن أحسن من الله صنعا ] وكأن مصر كانت فى خطاب الله لموسى حينما قال له الله سبحانه وتعالى : [ ولتصنع على عيني ] فقد تربي موسي بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن داود بن اسحق بن إبراهيم بن تارخ الذي تربى ولبث فيها من عمره عدد سنين كانت كفيلة بالتكوين العقلي ، وفى مصر على أرضها مشي و في بعض معاهدها تعلم ، ومنها ارتوي من مائها وشبع من طعامها وفى ديار مصر تستر بجدار بيوتها و علي نيل مصر تنزه ، وفي تل بسطة تجول فى شوارعها ، صاحب ورافق واتخذ من بعض شبان مصر صحابا وعلي جبل الطور بمصر كان كليم الله فتكلم ٠ وعلى أحد جبال مصر تجلى الله
يقول أحمد شوقي :
مصر موسي عند انتماء وموسي
مصر إن كان سنة وانتماء
وكانت سيرة موسي فى مصر ربما مثل سيرة نبي الله إدريس في مصر مع اختلاف و مفارقات ومقارنات ، وأيضامع سيرة إبراهيم خليل الرحمن في مصر بحكم قياس مع الفارق الزمني والمكاني ووحدة الحجم التاريخي ووزن الكثافة بتقويم ، إذن كان إدريس في مصر كما كان إبراهيم و موسي على نبينا محمد وعليهم السلام إذ كانوا جميعا فى مصر ، الشرف والتشريف و الكلفة والتكليف ، وفي مصر تم شراء تاريخي بثمن غال ، وعقد بيع بلا نظير فهو مقابل بيع تاريخي كريم ، تأكدت في مسا راته سخاء وجود مصر فى مساق الأنبياء ، والأنبياء فى مصر سيرة محفوظة في الكون ، ومصر فى سيرتهم ذكرت فى التوراة والأنجيل والقرآن ، فخلود مصر هو خلود باق مع الدين، فى الكتب السماوية المقدسة ، خلود مصاحبة حتى أخر عمر الدنيا بأمر مالك الدنيا والاخرة الملك الديان ٠
مصر أفق مبين فى الأفاق ، علو تحت سماء الدنيا امتداد فى أرض الله ، تمدد يستلهمه من فى الدنيا احياء كما اقتبس منه وأخذ من لم يكونوا حاليآ على قيد الحياة ، ومصر حياة وهي شيدت حضارة لاينكرها إلا الجاهلون وما يجحدها أحد إلا الخاسرون الحاسدون وبعض منهم سخروا من فكرة انشاء المتحف المصري لذا نتركهم لذم أحمد شوقي لهم بقوله :
زعموا أنها دعائم شيدت
بيد البغي ملؤها ظلماء
فاعذر الحاسدين فيها اذلا موا
فصعب علي الحسود الثناء
وبنوا الشمس من أعزة مصر
والعلوم التى بها يستضاء
فادعوا ما ادعى أصاغر آثينا
ودعواههم خنا وافتراء
وندع أحمد شوقي قصيدته لنذهب إلي حافظ إبراهيم شاعر النيل ١٨٧٢/ ١٩٣٢ ليزعق عليهم ويصرخ فيهم بقوله فى قصيدته مصر تتحدث عن نفسها :
قل لمن انكروا مفاخر قومى
مثل ما انكروا مآثر ولدى
هل وقفتم بقمة الهرم الأكبر
يوما فرأيتم بعض جهدي
هل رأيتم تلك النقوش اللواتي
أعجزت طوق صنعة المتحدي
حال لون النهار من قدم العهد
وما مس لونها طول عهد
إن مجدي فى الأوليات عريق
من له مثل أوليأتي ومجدي
أنآ أم التشريع قد أخذ الرومان
عني الأصول فى كل جد