يواجه الأمن الغذائي المصري تحديًا صامتًا، ولكنه مدمر: الفجوة العلفية المتزايدة. هذه الفجوة، التي تُمثل العجز بين احتياجات ثروتنا الحيوانية والداجنة والسمكية وما ننتجه محليًا من أعلاف، ليست مجرد رقم في الميزانية، بل هي محرك رئيسي لارتفاع أسعار اللحوم والألبان، واستنزاف قاسٍ لمدخراتنا من العملات الصعبة.
تشير التقديرات إلى أن مصر تستورد حاليًا ما يزيد على ١١ مليون طن من الأعلاف ومكوناتها الأساسية سنويًا، وخاصة الذرة الصفراء وكُسب فول الصويا. هذا الاعتماد الخارجي بنسبة تقترب من 60% يجعل قطاع الإنتاج الحيواني لدينا رهينة للتقلبات الجيوسياسية وأسعار الشحن العالمية.
ثلاثة أسباب عميقة للتحدي:
لتجاوز هذه الأزمة، يجب أن نعترف بأن المشكلة أعمق من مجرد نقص في الزراعة:
1. التركيز الأحادي: استراتيجياتنا الزراعية لا تزال تعطي أولوية مطلقة للمحاصيل الغذائية التقليدية على حساب المحاصيل العلفية الاستراتيجية.
2. إهدار الثروة: لا نستغل بفعالية المخلفات الزراعية المهولة (مثل قش الأرز، وحطب الذرة، ومتبقيات مختلف المحاصيل) التي يمكن أن تسد ما لا يقل عن ربع العجز العلفي بعد معالجتها العلمية السليمة.
3. ضعف الكفاءة: ما ننتجه من علف يُهدر جزئيًا بسبب ضعف برامج التحسين الوراثي، مما يعني أن حيواناتنا تستهلك كميات كبيرة من العلف مقابل إنتاج أقل من المطلوب (انخفاض كفاءة التحويل الغذائي).
إن مواجهة تفاقم الفجوة في مصر تتطلب خطة وطنية متكاملة وفورية، تركز على الاستدامة والكفاءة:
1. برنامج إلزامي لمعالجة المخلفات: يجب أن تصبح معالجة المخلفات الزراعية وتحويلها إلى قيمة علفية عالية ممارسة زراعية إلزامية مدعومة من الدولة، مع توفير التمويل اللازم لمصانع المعالجة الصغيرة والمتوسطة.
2. الزراعة التعاقدية الشاملة: التوسع الفوري في نظام الزراعة التعاقدية لمحاصيل الذرة الرفيعة وفول الصويا، مع ضمان سعر مُجزٍ للمزارع لضمان استمرارية الإمداد المحلي.
3. دعم الابتكار في البروتين: تخصيص دعم مالي للبحث العلمي لتطوير بدائل بروتينية محلية (مثل الطحالب والحشرات في الأعلاف السمكية) لكسر احتكار كُسب فول الصويا المستورد.
4. التحسين الوراثي وكفاءة الأداء: يجب أن تركز برامج التلقيح الاصطناعي بشكل مكثف على السلالات المُهجنة والمُحسَّنة وراثيًا التي تحتاج كميات أقل من العلف لإنتاج حليب ولحوم أكثر.
5. مجلس وطني أعلى للأعلاف: إنشاء كيان حكومي يجمع كل الأطراف المعنية (الزراعة، الصناعة، التجارة، البحث العلمي) لضمان التنسيق ووضع خطط استباقية لمواجهة أي صدمات عالمية.
إن الأمن الغذائي الحيواني هو خط الدفاع الأول عن استقرار الأسرة المصرية. تفاقم الفجوة العلفية هو رسالة واضحة بضرورة التحرك من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة التخطيط الاستراتيجي المتكامل. بالاستثمار في البحث العلمي وتفعيل الدور التعاوني للمزارعين، يمكننا تحويل تحدي المخلفات إلى ثروة، وتقليص اعتمادنا على الخارج، لبناء منظومة إنتاج غذاء قوية، مستدامة، ومُحصنة ضد الصدمات.