رئيس مجلس الإدارة
د.محمد فايز فرحات
رئيس التحرير
أيمن شعيب

طرح القلم

الصين مصر تداول فى التاريخ ٠٠ تبادل تجارة وزراعة "٢"


  • 4-6-2025 | 12:52

أبو بكر عبد السميع

طباعة
  • أبو بكر عبد السميع

أدبيات من صنع التاريخ، وهي في التاريخ قد تتحول إلى كلاسيكيات بأثر رجعي، ولكن ليس كل مخرجات التاريخ كلاسيكيات تقبع في غرف السطور المغلقة، ولا في ذاكرة يصارعها النسيان، فلا تستحضر عودة محاكاة لموجود مضى، ولا إفاقة من غيبوبة بعد صدمة تكدس حوادث بعضها فوق بعض، أو إغماءة تغييب تتلوها إغفاءة منهكة مشوار تذكر في خلد المخ، أو تيه في حارات وأزقة وشوارع مجريات حوادث سبقت، فجعلت أضدادها إزاحة للمطلوب وجوده الذي بتكوينه؛ بل أدبيات التاريخ كنوز ثراء تراث يمثل بقاء لذاكرة الأمة، لحمة وسدى ملتحمة أجزاء علاقة الماضي بمسكون إيجابياته، بوصلة تحديد للحاضر الذي نسكنه، الذي نصنعه ميراثًا لمن بعدنا. خلفية قبس متراس لتداول أيام الله بين الناس، تراكم تجارب مشعل ضوء ينير صباح مساء، مسير لطرق نور مصابيح كهرباء سالب وموجب سلوك موصلات، تيار يمتد وهو يسري في علاقات بين الناس، عودة إلى تغريدات الماضي، بلابل معاملات واقفة على أشجار التاريخ تغني أنشودة تشجيع بحماس بلحن عبقري يملأ الوجدان الوثاب الرنان.

 

٠٠ نعود إلى التعاون الزراعي والتجاري ككل بين مصر والصين، بعد أن سحب بساط السطور نفسه في المقال السابق، فتوقفنا عند مساحة تاريخ تعاون مصري قديم فرعوني صيني، وصولًا إلى صبح الإسلام. ٠ نواصل بعد فاصل ونتواصل لنقول: إن التعاون الزراعي المصري الصيني مع دخول مصر عهدها بالفتح الإسلامي، فازدهر التبادل التجاري المصري الصيني، وخاصة منه الزراعي، إذ كان عمرو بن العاص ٤٥ قبل الهجرة ٥٧ هجرية يدير مصر من منصب الوالي، فشجع ابن العاص ذلك التعاون، وهو الفاهم الواعي الخبير بأمور التعاون، فهو التاجر الذي تاجر مع تجار مصر قبل الإسلام ومع بائعي إثيوبيا قبل هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة، فهو لديه عقل تاجر يبحث عن المكسب ويحسب ألف حساب للخسارة، يعلم مداخل ومخارج التجارة وإن اختلفت الجنسيات وتضادت العقائد.

 

لذا ازدهر التعاون المصري الصيني الزراعي التجاري. ثم مع الأمويين والعباسيين من بعدهم، ثم مع مصر الفاطمية، قطع التعاون الزراعي والتجاري بين الصين ومصر أشواطًا كما ينبغي، وإن لحقته كعبلة أو كبوة.

 

ثم كان عصر المماليك، فارتفع التعاون الصيني المصري علوًا أعلى، سموقًا أكثر رحابة، قمة في الازدهار الأرقى إداريًا، المتشعب بالمحصولات الزراعية، المتنوع بالسلع التجارية، ويعد عصر السلطان بيبرس ٦٦٠ هجرية ١٢٦١ ميلاد...

 

هو الأساس الأول في بناء تلك العلاقة، فوضع نظمًا للتعاون الصيني المصري، وكانت الصين في تلك العصور الوسطى أشد احتياجًا لمصر، خاصة عصور ازدهار دولة المماليك الذين تميزوا بالفروسية والبطولة والدفاع عن الإسلام. فالظاهر بيبرس جعل مصر تصعد إلى حد كبير في تأمين طرق التجارة من مصر حتى تحط حمولتها في الصين والهند وآسيا وأوروبا. فكانت مصر المملوكية بطلة التاريخ بلا منازع؛ فروسية القوة ومجمع القوى بجيشها العسكري، فقد دحرت المغول أولًا في موقعة عين جالوت ٦٥٨ - ١٢٦٠ بقيادة البطل المظفر قطز ٦٥٨ هجرية / توفي ١٢٦٠ ميلادية، ذلك البطل الفذ الذي غير مجرى التاريخ بعين جالوت، وحمى بذلك مصر والعرب وأوروبا من فوهات صرف مسدودة أمام حراك التاريخ، ذلك الوضع الذي تتسرب منه مجاري عبث "المغول" بانسدادات التسلط والقهر وأنواع فظيعة من القتل والتقتيل. فقيض الله البطل قطز فهزمهم في عين جالوت، ثم سار وراءهم فأخرجهم من الشام كله: فلسطين والأردن وسوريا ولبنان، ثم جرى وراءهم حتى انسحبوا إلى ممالك الدولة البيزنطية، ثم توقف قطز أو أوقفه الموت "اغتيالًا"، ثم أكمل بيبرس مسيرة الحرب بعده، فقد اعتلى سدة حكم مصر خلفًا للملك المظفر قطز، وكان المغول يهددون الطرق التجارية كلها شرقًا وغربًا، فتضررت أوروبا وآسيا كما توجعت وتألمت الصين وخافت، فاستعانت بالسلطان بيبرس لحماية طرق التجارة منها وإليها، وكذلك فعلت أوروبا والدولة السلجوقية والبيزنطية. وعلى خلفية ذلك الاشتباك التاريخي ازدهرت مصر تجاريًا بعد أن تخلصت كلية من المغول الذين صنعوا لأنفسهم دولة "الإلخانية" في تبريز بجغرافية إيران، وخاف المغول من مصر وسقطوا ثم سكتوا، ولم يقتربوا من أي طريق بري أو بحري عليه الراية المصرية. فانتعشت التجارة الزراعية من خلال البحر الأحمر وعبر الموانئ المصرية، وهي: عيذاب، والإسكندرية، ودمياط، منها يتم تحميل المنتجات الزراعية ومنتجات أخرى، وشق طرق مرورها في البحر المتوسط إلى أوروبا والهند والصين.

 

وكان السلطان قلاوون ٦٨٧ هجرية / ١٢٨٨ ميلادية أول سلطان يستخدم "جوازات السفر"، فقد استخرج جوازات سفر للتجار الصينيين أطلق عليه وقتها "مرسوم أمان"، بموجبه لا يستطيع أي أحد التعرض للتجار الوافدين إلى مصر وحتى بلدانهم، وكذا من دولهم إلى مصر. هذا المرسوم شجع التجار الصينيين وعمل على حماية الموانئ والطرق التجارية بحرية أو برية.

 

ثم جاء عصر الازدهار التجاري بين مصر والصين في عهد السلطان قايتباي ١٤١٦ / ١٤٩٦ ميلادية، وهو سلطان كان في الوقت نفسه يمارس التجارة قبل توليه سلطنة مصر.

 

سبق قايتباي غيره من السلاطين بإنشاء أبراج وفنارات في الإسكندرية، فقد كلف الأمير بشتك الدوادار الكبير بعمل أبراج لمراقبة ومطاردة القراصنة الذين يهددون طرق التجارة عبر رحلتها ورسوها وذهابها وإيابها من وإلى بلدانها ومصر. من أجل ذلك حصل طريق بحر القلزم (السويس حاليًا) والفرما (بورسعيد حاليًا) على صك أمان، فاغتاظ أمراء أوروبيون، فأسقط في أيدي السلاطين العثمانيين، فحرضوا مملكة أرمينيا الصغرى، تحريض عمل بالوكالة ضد مصر وتجارتها. ومهما كانت حيل وحدة مناوشات مناوئة من أوروبيين وعثمانيين، فكل محاولاتهم باءت بالفشل، وهم يسعون لمنع مصر وإفساد الموقف التجاري المصري الزاهي المزدهر، فقد يئست أرمينيا بعد أن اختبرت طول نفس مصر وصمودها، كما حاول العثمانيون. في عهد بايزيد السلطان العثماني قاموا بثلاث معارك ضد مصر، فاندحر العثمانيون تحت سنابك الجيش المصري بقيادة السلطان قايتباي، ثم فر الأمير "جم" شقيق بايزيد إلى مصر هربًا من أخيه السلطان بايزيد الذي أقسم ليقتلن أخاه جم الذي طلب حق اللجوء السياسي إلى مصر، فمنحه قايتباي هذا الحق، فنعمت التجارة المصرية الصينية وتوسعت حلقاتها، وكانت الصين تحرص على التجارة مع مصر بشدة طلب، وكان تجار صينيون يتسوقون كثير سلع من منطقة الفسطاط بالقاهرة. ففي الفسطاط وجد ١٩ سوقًا إضافة إلى ٢٥٠ حانوتًا تجاريًا تكالب عليه التجار الصينيون وغيرهم من أوروبا وآسيا، كانت المحاصيل الزراعية والفاكهة هي سيدة العرض والطلب، كما كان ميناء بولاق بالقاهرة موضعًا للتجارة الآتية من وجه قبلي وأفريقيا تشون، ثم تباع إلى الصينيين وغيرهم من جنسيات دولية مختلفة التنوع.

 

٠٠ ثم جاء عناد الزمان الأغبر الذي احتل فيه العثمانيون مصر بسلاح الخيانة لا بالقوة العسكرية، إذ كان المصريون في موقعة مرج دابق ١٥١٦ قد تسيدوا جو المعركة، لولا خيانة أمراء من المماليك، وهم: قانباي الرماح، وجان برد الغزالي (توفي عام ١٦٠٠)، وخاير بك (١٤٦٤ / ١٥٢٢)، والزيني بركات، والشهاب زكريا، وحسن بن مرعي. فهؤلاء ضيعوا فرصة نصر المصريين المؤكد على العثمانيين الذين زحفوا إلى مصر بقيادة سليم الأول (١٤٧٠ / ١٥٢٠) بعد أن قتل سلطان مصر قانصوه الغوري (١٤٤٦ / ١٥١٦).

 

٠٠ لذا تعطلت مشروعات كثيرة مكتسبات للتجارة المصرية الصينية والمصرية الأوروبية، إذ لجأ العثمانيون إلى سرقة وسلب ونهب المحاصيل الزراعية وبقية السلع، فيأخذونها إلى تركيا فيأكلون حرامًا وتبنى أجسادهم من مال حرام. وحتى نهاية العصر العثماني كان التعاون الزراعي المصري الصيني قد دخل في طور الضعف، ولكنه لم يصل إلى حد الأفول الكلي، إذ كان التجار الصينيون يتحايلون بصنائع تقيهم مصارع السوء العثماني، يدخل الصينيون تجارًا وحدانًا ثم يذهبون من مصر إلى بلدانهم ذرفات جماعات ملتحمة ملتئمة، يسلكون طرقًا برية وعرة من صحراء سيناء ثم وصولهم إلى الخليج العربي ثم الهند ثم وصولهم بالسلامة إلى الصين. تعب ومشقة وأخطار ومهالك ضرر، كل ذلك من أجل حرص الصينيين على حصولهم على منتجات مصر الزراعية والأدوية والأعشاب النباتية والأخشاب.

 

٠٠ استمر العثمانيون في نهب ثروات مصر الزراعية، فنجد علامة مصر الدكتور جمال حمدان (١٩٢١ / ١٩٩٣) يشير إلى ذلك بقوله في كتابه الغني بمادته العلمية، الثري بعمق المحتوى، كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير" حيث يقول: (جاء العثمانيون إلى مصر تحت قناع الدين، ولولا ذلك القناع الزائف لعد مماثلًا للغزو المغولي الوثني... كانت الإمبراطورية العثمانية ابتزازًا، وكانت الدول التي احتلها العثمانيون بقرة للحلب فقط)! ومن قبل علق عبد الرحمن الجبرتي (١٧٥٣ / ١٨٢٥) المؤرخ الكبير في كتابه "عجائب الآثار" على دور العثمانيين السلبي في إضعاف تجارة مصر، خاصة الزراعية منها، إذ يقول الجبرتي: (وعندما انسحب الفرنسيس من مصر خاف المصريون من عودة النظام العثماني وتمنى المصريون بقاء الفرنسيس)!

 

٠٠ ثم جاء محمد علي عام ١٨٠٥ فتولى الحكم في مصر، وعمل على إنعاش التبادل التجاري المصري الصيني، لذا لجأ إلى سياسة احتكار الأراضي في بداية عهده لضمان تبادل زراعي مع الصين وآسيا كلها وأوروبا ترعاه الدولة. نجحت سياسة محمد علي بدرجة ما، وصار فيها من بعده أولاده وأحفاده.

 

٠٠ ثم يدخل التاريخ مصر في مرحلة جديدة هي مرحلة ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، والعالم يداوي جراحه جراء الحرب العالمية الثانية، تتسارع وتائر القناعات السياسية وتتبلور هيكلية الأمن القومي، فيتخذ قائد ثورة يوليو الزعيم جمال عبد الناصر موقفه بتوسيع محيط دائرة الأمن القومي ليس بجغرافية حدود؛ بل بمسألة وجود، وكانت الصين إحدى حلقات الأمن القومي، فازدهرت التجارة رغم تحديات تبادل الأدوار الإنجليزية والأمريكية وبداية الحرب الباردة.

 

نواصل في المقال التالي الحديث عن التعاون المصري الصيني الزراعي بجوهره، بكنهه، بمكونه التجاري من مصر عبد الناصر إلى مصر السيسي. ولماذا أهمية ذلك التعاون يجب أن يبقى أكثر أخذًا الآن عن ذي قبل؟

اخر اصدار

67