لا يخفى على أحد أن الزراعة تمثل حجر الزاوية في استقرار المجتمعات وتوفير الأمن الغذائي، إلا أن هذا القطاع الحيوي يعاني من أزمة حقيقية تهدد استدامته، وهي عزوف الشباب عن العمل الزراعي وهجرتهم المتزايدة من الريف إلى المدينة، هذه الظاهرة لم تعد مجرد تحوّل ديموغرافي، بل باتت تمسّ جوهر مستقبل الزراعة في العالم العربي.
لماذا يهاجر الشباب من الريف؟ تتنوع دوافع الشباب لترك الريف، لكن القاسم المشترك بينها هو الإحباط، فالزراعة في عيون كثيرين لم تعد مجزية، سواء اقتصاديًا أو اجتماعيًا، وكذلك الدخل المحدود، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وقلة الدعم الفني، يقابلها حياة حضرية أكثر جذبًا من حيث الفرص والخدمات، كما أن الصورة النمطية التي تربط الزراعة بالتعب والمشقة وقلة المكانة الاجتماعية ساهمت في تراجع اهتمام الأجيال الجديدة بها، والنتيجة تراجع الزراعة وتهديد الأمن الغذائي.
هذه الهجرة أدت إلى شيخوخة اليد العاملة الزراعية، وتراجع إنتاجية الأرض، بل وإهمال الكثير من الأراضي الزراعية التي تحوّلت إما إلى أراض بور أو إلى مشاريع عمرانية، وفي ظل أزمات سلاسل التوريد العالمية، تزداد الحاجة إلى إنتاج محلي يعزز الاكتفاء الذاتي، الأمر الذي يجعل استمرار هذا النزيف البشري من الريف تهديدًا استراتيجيًا حقيقيًا.
لكن .. كيف نعيد الزراعة إلى قائمة اهتمامات الشباب، اعتقد أن الحل لا يكمن فقط في التشجيع، بل في التمكين الفعلي، فيجب أن تتحول الزراعة من عبء إلى فرصة، وذلك من خلال توفير بنية تحتية لائقة في الريف تشمل الطرق، الكهرباء، الإنترنت، والرعاية الصحية، وإطلاق برامج تمويلية موجهة للشباب لتمكينهم من بدء مشاريع زراعية خاصة، وإدخال التكنولوجيا الزراعية الحديثة مثل الزراعة الذكية والطائرات المسيّرة لجعل المهنة أكثر تطورًا وربحية، وإعادة هيكلة التعليم الزراعي ليواكب متطلبات السوق، مع توفير التدريب العملي، ودعم ريادة الأعمال الزراعية وفتح آفاق التصدير أمام صغار المنتجين، وإطلاق حملات إعلامية لإعادة الاعتبار لصورة المزارع كمساهم رئيسي في الاقتصاد.
فالزراعة ليست ماضٍ فقط، بل مستقبل يحتاج إلى من يؤمن به ويطوره، وإذا أردنا فعلاً أن نضمن غذاءنا واستقلالنا الاقتصادي، فعلينا أن نعيد للريف مكانته، وللشباب دورهم الطبيعي فيه، ليس كعمال، بل كروّاد ومبتكرين .. حفظ الله مصر .. حفظ الله الوطن.